و.ض.أ / د. محمد عبد الستار البغدادي ـ خبير اقتصادي عراقي
تعدّ الهجرة المسيحية من العراق بعد العام 2003 من أبرز الظواهر الديمغرافية ذات الصلة بالبنية العميقة للمنظومة السياسية والاجتماعية في الدولة العراقية الحديثة، هذه الظاهرة لم تُطرح بشكل كافٍ في السياسات المعنية بإعادة بناء الدولة ما بعد التحوّل السياسي، على الرغم من دلالاتها متعددة المستويات، سواء من حيث علاقتها بالتنوع المجتمعي، أو من حيث كونها انعكاساً لمشكلات أعمق تتعلق بتوزيع الأمان القانوني، والعدالة الرمزية، وضمانات المواطنة، وتشير المؤشرات الكمية الصادرة عن مؤسسات محلية ودولية إلى أن حجم التراجع في عدد السكان المسيحيين خلال العقدين الماضيين يفوق المعدلات الطبيعية للحراك السكاني، ويعكس بصورة مباشرة اضطراب البيئة الحاضنة لوجود هذا المكون، كما تسجّل تقارير الهجرة الدولية، وأبحاث الشتات العراقي، تركّز هذه الهجرة في بلدان بعينها، بما يعكس وجود أنماط استقرار بديل، أخذت تتبلور خارج الفضاء الوطني.
يتموضع هذا التراجع ضمن سياق تراكمي بدأ بإحداث أمنية ميدانية، وانتهى إلى تحولات هيكلية في أنماط الانتماء والمواطنة، فالمدن التي شكّلت تاريخياً بؤراً سكانية للمكون المسيحي، مثل الموصل وسهل نينوى وبغداد، تعرضت إلى موجات عنف ممنهجة، شملت الاعتداءات المباشرة، والتهجير القسري، والاستهداف المؤسساتي غير المعلن، ما انعكس على إدراك الأفراد المسيحيين لمستوى الأمان الاجتماعي والضمان السياسي داخل البلاد، وتزامن ذلك مع تراجع مستويات تمثيلهم في البنية الرسمية للدولة، سواء في الإدارة العامة، أو في المجالين السياسي والتشريعي، ما أضعف القدرة على الدفاع عن مصالحهم ضمن آليات صنع القرار، ودفع باتجاه تعزيز خيار الخروج كبديل عن المطالبة بالإصلاح.
تُعدّ هذه الظاهرة مؤشراً مركزياً على صعوبة تحقيق التكامل المجتمعي في البيئات ما بعد النزاع، حيث ترتبط مسارات العودة والاستقرار بمحددات تتجاوز الرغبة الفردية، وتشمل البيئة القانونية، والموارد المحلية، وإرادة الدولة في توفير ضمانات الحماية، وفي حالة العراق لم تتبلور بعد سياسة وطنية شاملة لمعالجة تداعيات هذه الهجرة، أو لتأطير العلاقة بين الداخل والمجتمعات المسيحية في الشتات، كما لا توجد برامج فاعلة تستهدف استعادة الثقة، أو إعادة دمج هذا المكون في سياق وطني متوازن، إن معالجة هذا الملف تتطلب تجاوز المقاربات الجزئية أو الموسمية، والانطلاق نحو فهم بنيوي يربط بين الهجرة المسيحية وحالة الانتقال السياسي غير المكتمل، بما يسمح بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة ومكوناتها على أساس عقد اجتماعي جديد يراعي مبدأ الشمول والتوازن الديمغرافي والرمزي في آن واحد.
اولاً: المشهد الديموغرافي وتفكك المجال السكاني المسيحي
شهدت البنية الديمغرافية للمجتمع العراقي تحولات حادة بعد عام 2003، جاءت كنتيجة مباشرة لانهيار المنظومة الأمنية وتفكك مؤسسات الدولة، الأمر الذي انعكس بصورة ملموسة على المكونات المجتمعية الأقل عدداً، وفي مقدمتها السكان المسيحيون، وقد أفضت هذه التحولات إلى نشوء موجات متعاقبة من النزوح والهجرة، بدأت داخل الحدود الوطنية، وانتقلت تدريجياً إلى الخارج، بفعل استمرار غياب البيئة الآمنة وتضاؤل الأفق السياسي للمشاركة، وتتفق الأدبيات السكانية بما في ذلك تقارير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين وبيانات المؤسسات الكنسية على أن معدلات التناقص في أعداد المسيحيين لم تكن عارضة أو مؤقتة؛ إنما جاءت ضمن سياق منظم تخللت فيه عمليات استهداف، وتهجير، وتهديد وجودي على مستوى الجماعة والمكان معاً.
تمركزت هذه التغيرات في محافظات محددة، مثل بغداد ونينوى والبصرة، حيث تعرّضت أحياء بكاملها للإفراغ، وتغيّر الطابع السكاني فيها بصورة جذرية خلال سنوات قصيرة، وقد ترافق ذلك مع غياب الإجراءات التعويضية، وعدم قدرة الدولة على تأمين العودة الطوعية، ما أسهم في تكريس نمط “الخروج الدائم”، كما ساهم ضعف التغطية الإعلامية والتهميش السياسي لهذه القضية في جعلها خارج دائرة الأولويات العامة، وهو ما أفضى إلى تعمّق الشعور بالعزلة لدى الجماعات المسيحية، سواء لدى من غادروا البلاد، أو لدى من تبقّوا في الداخل دون ضمانات كافية.
وتُظهر الدراسات الميدانية أن قرار الهجرة لدى السكان المسيحيين لم يكن ناتجاً عن حادثة مفردة أو ظرف طارئ، وإنما بُني على تقييم تراكمي لغياب الأمان، وتكرار الاستهداف، وانسداد الأفق المؤسسي، وهو ما يجعل الظاهرة قابلة للتوسع في حال استمرار الظروف نفسها، كما أنّ هذا المسار الديمغرافي يمسّ ليس فقط التعددية الدينية؛ وإنما أيضًا توازنات الهوية الوطنية، باعتبار أن الحضور المسيحي شكّل ركناً في المعمار الرمزي واللغوي والثقافي للدولة العراقية منذ تأسيسها الحديث.
تشير الوقائع إلى أن هجرة المسيحيين من العراق لا ترتبط فقط بعوامل أمنية آنية؛ إنما تنبع من إشكالات بنيوية أعمق، تشمل اختلال علاقة الفرد المسيحي بالمؤسسة السياسية، وغياب التشريعات الكفيلة بضمان المواطنة المتساوية، فضلاً عن هشاشة النظام الإداري في حماية الخصوصيات الدينية والثقافية، هذه العوامل ولّدت ما يمكن وصفه بـ “البيئة الطاردة المركبة”، التي جمعت بين الخوف من العنف، وفقدان الثقة بالسياسات العامة، والانكماش التدريجي للتمثيل الرسمي للمسيحيين داخل مؤسسات الدولة، وقد أسهمت هذه البيئة في تحويل الهجرة من خيار فردي إلى نمط جماعي، تجاوزت فيه دوافع اللجوء مسألة الأمان إلى مستويات أعمق تتعلق بإعادة تعريف الانتماء والمستقبل.
تؤدي طبيعة التشريعات والمؤسسات دوراً محورياً في تفسير هذا الاتجاه، فالنظام القانوني العراقي لا يزال يعاني من قصور واضح في تنظيم حقوق المكونات الدينية على نحو متوازن، سواء في مجالات الأحوال الشخصية، أو الحقوق الثقافية، أو آليات التمثيل، وفي ظل هذا القصور، لا يجد المواطن المسيحي أدوات قانونية كافية لحماية ذاته أو مجتمعه من التهميش أو الإقصاء، كما أن آليات العدالة الانتقالية التي طرحت في مراحل مختلفة لم تلامس قضايا المكونات الدينية بعمق، وظلت محصورة في الملفات السياسية الكبرى، دون التطرق إلى الأبعاد السكانية والثقافية المرتبطة بها.
علاوة على ذلك فقد ساهم التدهور الاقتصادي، وانهيار منظومات الخدمات في المناطق ذات الكثافة المسيحية، في إضعاف فرص البقاء، وقد ترافق ذلك مع محدودية فرص العمل والتوظيف، واستبعاد غير معلن للمسيحيين من قطاعات القرار، ما زاد من معدلات الانسحاب من الفضاء العام، ولا يمكن إغفال دور الخطاب العام السائد في ترسيخ الشعور بعدم الانتماء، لاسيما حينما يتم التعامل مع المكوّنات غير المسلمة كاستثناءات ثقافية، وليس كأطراف فاعلة ومتكافئة داخل البناء الوطني، هذا المشهد المركب يفسّر جزئياً استمرارية الهجرة المسيحية حتى اللحظة الراهنة، ويشير إلى الحاجة لإعادة تقييم بنية الدولة ومكانة المكونات الأصيلة ضمنها.
ثانياً: الموقع المؤسسي للمسيحيين في بناء الدولة الحديثة
يرتبط الحضور المسيحي في العراق بمجموعة من الأدوار التاريخية التي تشكلت في إطار بناء الدولة العراقية الحديثة مطلع القرن العشرين، وتحديداً خلال المرحلة الملكية وما تلاها من أنماط تحديث إداري وثقافي، إذ ساهم المسيحيون في رسم معالم البيروقراطية الناشئة، وشاركوا في تأسيس مؤسسات التعليم، والطب، والهندسة، والخدمات العامة، وتشير الوثائق الرسمية والذاكرة المؤسسية إلى أن المكون المسيحي كان من أبرز الفاعلين في حقول المعرفة التخصصية، ومن المساهمين في تطوير الصحافة واللغة والتعليم المدني، وبالرغم من هذا الحضور لم يتم إدماج المسيحيين في إطار سياسة هوية متوازنة ومستقرة على مدى العقود اللاحقة، فقد تعرضت مواقعهم الوظيفية والسياسية إلى التآكل المتدرج في فترات الصراع السياسي والتقلبات السلطوية، وهو ما أسفر عن تقليص تمثيلهم في الإدارة العامة، وتراجع نفوذهم المهني والثقافي، لاسيما بعد الثمانينيات، ومع بداية العقد الأول من الألفية الجديدة، أخذ هذا التراجع شكلاً أكثر حدة، مع تصاعد العنف المجتمعي، وتفكك سلطات الضبط، وانتشار أشكال غير رسمية من الهيمنة الطائفية والتمييز، وضمن هذا السياق لم تتمكن الدولة من تطوير أطر مؤسسية قادرة على استيعاب المكون المسيحي بوصفه طرفًا أصيلًا في المعادلة الوطنية، ما أسهم في إعادة إنتاج شعور بالإقصاء، ولو بصورة غير مباشرة.
أفرزت مرحلة ما بعد 2003 بنية سياسية جديدة تستند إلى تقاسم سلطوي على أساس طائفي وعرقي، وهو ما انعكس سلبًا على المكونات الصغيرة من حيث الوزن العددي، ومنها المكون المسيحي، فعلى الرغم من الاعتراف الدستوري بالتعددية الدينية، بقيت آليات التمثيل مقيدة بالنصوص الشكلية، دون أن تنعكس فعلياً في موازين النفوذ داخل المؤسسات التنفيذية أو التشريعية، كما أن تخصيص مقاعد محدودة ضمن نظام “الكوتا” لم يسهم في تعزيز التمكين السياسي؛ إنما ساهم أحياناً في تثبيت الهامشية ضمن قنوات تمثيل رمزي لا تعكس توازناً حقيقياً في عملية صناعة القرار.
إلى جانب التمثيل السياسي واجه المسيحيون تحديات تتعلق بالمجال الرمزي والهوية الجمعية، حيث أدى شحّ الاعتراف الرسمي بالرموز والمناسبات والحقوق الثقافية إلى إضعاف شعورهم بالانتماء المؤسساتي، ولم تتوافر برامج عامة تستهدف الحفاظ على التراث المسيحي ضمن السياسة الثقافية للدولة، أو إدماج سرديتهم التاريخية في المناهج التعليمية والإعلام الرسمي، وترافق ذلك مع تراجع مساحة المشاركة في المؤسسات الأمنية والدبلوماسية، ما عمّق الفجوة بين المكون المسيحي والدولة من جهة، وبين هذا المكون والمجتمع السياسي من جهة أخرى.
ضمن هذا الإطار تتحول قضية مسيحيي العراق من مجرد ملف أقليات إلى مسألة ترتبط بمفهوم الدولة ذاته، وبقدرتها على إنتاج عقد اجتماعي يضمن الشراكة الكاملة والتعدد المنضبط، وهو ما يستدعي إعادة نظر في البنية التمثيلية، وفي منظومة القوانين والإجراءات، بما يعيد الاعتبار لهذا المكوّن ويعيد ربطه بالمركز الوطني دون وسائط طائفية أو تحالفات ظرفية.
ثالثاً: سياسات معالجة ظاهرة الهجرة المسيحية وإنهاء النزيف الديمغرافي
تتطلب المعالجة الفعّالة لظاهرة الهجرة المسيحية من العراق تبني رؤية وطنية شاملة ترتكز على فهم متكامل للعوامل المنتجة للمغادرة، وتأسيس أطر مؤسسية تضمن تقليص الفجوة بين الدولة والمواطن المسيحي، هذه المعالجة لا تقتصر على الجانب الأمني؛ إنما تشمل مجموعة من المسارات المتقاطعة: قانونية، خدمية، سياسية، ثقافية، وقد أظهرت التجارب المقارنة في مناطق نزاع مشابهة أن نجاح العودة الطوعية لمكونات دينية أو إثنية يرتبط بمدى توافر الضمانات الدستورية والمؤسسية، ومدى كفاءة الدولة في توفير البيئة القانونية المحفزة على الاستقرار، وبذلك يمكن طرح مجموعة من الخطوات لتنجيز هذه السياسات:
1. تعديل المقاربة القانونية للهوية الدينية ضمن النظام الدستوري العراقي، إذ يتطلب الأمر مراجعة التشريعات التي تؤدي بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تهميش المكونات الدينية، بما يشمل قوانين الأحوال الشخصية، والتوظيف، والحريات الثقافية، وإدارة الأوقاف، كما أن ضمان مبدأ المساواة أمام القانون يتطلب تفعيل المؤسسات الرقابية التي تمنع التمييز أو التجاوزات غير الرسمية، وتتيح آليات الطعن والانتصاف للمواطنين من مختلف المكونات.
2. بناء استراتيجيات إعادة إعمار خاصة بالمناطق ذات الكثافة المسيحية، لاسيما في سهل نينوى والمناطق الشرقية من الموصل، وينبغي ألا يقتصر على البنية التحتية إنما يتعداها إلى إعادة بناء الخدمات التعليمية والصحية، وتوفير فرص اقتصادية تتناسب مع مهارات واحتياجات السكان.
3. إيجاد خطط إدماج للشتات المسيحي العراقي، إذ توجد جاليات واسعة في أوروبا وأمريكا الشمالية تمتلك إمكانيات معرفية واقتصادية، ويمكن توظيفها عبر سياسات تشجيع العودة الطوعية، أو عبر خلق روابط مؤسسية معهم من خلال آليات دبلوماسية، اقتصادية، ثقافية.
4. يمثل غياب التمثيل السياسي المتوازن أحد العوامل الرئيسة في تهميش المكون المسيحي داخل بنية الدولة، فالنظام الانتخابي الحالي، وإن أقرّ تمثيلاً شكلياً عبر “كوتا الأقليات”، إلا أن هذه الصيغة لا تضمن بالضرورة التأثير الفعلي في السياسات العامة أو في مخرجات التشريع والرقابة، لذلك من الضروري تطوير آليات أكثر فعالية تتيح تمثيلاً نوعياً، لا يعتمد فقط على العدد، بل على الكفاءة السياسية ومدى الارتباط بالمجتمع المسيحي في الداخل والشتات.
5. تعزيز دور المكون المسيحي من خلال إعادة توزيع المناصب التنفيذية في مؤسسات الدولة، مع مراعاة معيار التعددية الدينية ضمن آليات التعيين والترشيح، هذا التوزيع لا ينبغي أن يقوم على أساس الرضى الرمزي، إنما على أسس مهنية عادلة تضمن إشراك المكون المسيحي في مراكز القرار المرتبطة بإدارة الدولة والحوكمة المحلية، كما يمكن تصميم برامج تأهيل سياسي تستهدف قيادات شابة مسيحية لإعدادها للمشاركة في المؤسسات التشريعية والتنفيذية.
6. تعزيز الحضور المؤسسي للمكون المسيحي لا ينفصل عن ضرورة تبني خطاب وطني جامع، يعيد تعريف العلاقة بين التنوع والوطنية، ويؤسس لفكرة الدولة الجامعة لا الدولة التمثيلية المجزأة.
7. إيجاد مناهج تعليمية تُعيد إدراج تاريخ المكونات الدينية في السردية الوطنية، وتُنتج مادة معرفية تعكس التنوع بوصفه أحد أعمدة الشرعية الوطنية.
إن الرؤية الوطنية المطلوبة ليست مجرد إعلان نوايا أو بيان سياسي؛ بقدر ما هي عملية متكاملة تتطلب التزاماً تشريعياً، وقرارات تنفيذية واضحة، ومتابعة ميدانية دقيقة، وإن معالجة الهجرة المسيحية تبدأ من الاعتراف بها كخلل في البنية السياسية والاجتماعية، وتستكمل عبر إعادة بناء الثقة، وضمان العدالة المؤسسية، وتوسيع أفق المشاركة المتوازنة لجميع المكونات دون استثناء.
وينطلق مشروعنا الوطني الذي نعمل على تطويره من رؤية شاملة لإعادة بناء الدولة العراقية على أسس المواطنة المتوازنة، والانتماء المشترك، والاعتراف الفعلي بالمكونات المتعددة للمجتمع، وضمن هذا الإطار، تُعدّ ظاهرة الهجرة المسيحية من العراق من أبرز التحديات التي تستوجب استجابة مؤسسية مسؤولة، لا باعتبارها مسألة مرتبطة بجماعة دينية بعينها، وإنما بوصفها مؤشراً مباشراً على اختلالات الدولة في احتضان تنوعها التاريخي، ومن هذا المنطلق يحتل ملف “النوارس المهاجرة” موقعاً متقدماً ضمن أولويات هذا المشروع، باعتباره متصلاً بمبدأ السيادة المجتمعية، ومرتبطاً بضرورة استعادة التوازن الديمغرافي والتكافؤ الرمزي في مؤسسات الدولة.